fbpx
الرئيسية » أخبار وطنية » بورتريه تونسي «سيلفي» لنزار قبّاني

بورتريه تونسي «سيلفي» لنزار قبّاني

222

كان أستاذنا الراحل محمّد الحليوي صديق أبي القاسم الشابي، أوّل من وجّهنا ونحن تلاميذ يافعون، إلى قراءة نزار قبّاني. أحالنا إلى هذا الشعر الذي لم نتعوّده، ونحن في مستهلّ التعليم الثانوي، يوم كانت المدرسة التونسيّة التي وضع أسسها الوزيرالكاتب محمود المسعدي، تونسيّة بحقّ: قراءة كلّ الشعر العربي من الجاهليّة إلى شعراء المهجر، والشعر الفرنسي من رونسار إلى إلوار وأراغون وبروتون. أذكر انني كنت أحفظ قصائد كثيرة من «قالت لي السمراء» و»طفولة نهد» و»سامبا»… وكنت استظهرها لأصدقائي، ونحن نتسكّع في القيروان العتيقة أو «تمبكتو» كما أسمّيها.. مدينة كأنها متحف محورها الجامع الأغلبي الكبير، وما يحفّ به من دور وكتاتيب ومدارس قرآنية ومساكن طلاّب، وشوارع وأزقة مبلّطة تؤدّي كلّها إليه، ومنه إلى الحارات المغلقة والأبواب الثلاثة الكبرى التي تفتح سور المدينة من الشرق والغرب والشمال.
كانت الحياة تمضي رضيّة مذلّلة، والمدينة تؤدي وظائفها التقليدية، ولكنها تعيش حياة العصر أو ما يشبهها، حيث تقوم بضعة مقاه وبارات، وقاعتا سينما « باريس» و«الكازينو»، وكنيسة كانت قد تحوّلت إلى مكتبة عمومية. ثم اضمحلّت هذه المعالم كلّها، لتبنى على أنقاضها مؤسّسات «عصريّة»، كما هو الشأن في مدن أخرى حيث الناس يهدمون وفي ظنّهم انهم يبنون ويشيدون. وأظنّ ان شعر نزار قبّاني، ارتبط عندي بهذا العالم القيرواني الذي حاولت بعد سنوات أن أتمثّله شعرا وسردا، وسينما في فلم خياليّ وثائقيّ عن زيارة الرسام بول كلي للقيروان عام 1914 مع المخرج التونسي هشام الجربي، شاركت فيه كتابة وتمثيلا.
زار نزار تونس أربع مرّات، أوّلها كانت في منتصف الستينيات، والثانية والثالثة في الثمانينيات، ولايزال كثير من التونسيّين يردّدون قصيدته «يا تونس الخضراء جئتك عاشقا». وأمّا الرابعة ـ ولها شأن خاصّ ـ فكانت عام 1995 في القيروان حيث قضّى نزار معنا أسبوعا كاملا. وكنت أنا أوّل من رتّبها بالتنسيق مع أدونيس ربيع 1994 في القيروان.
لا أحبّ في هذا البورتريه الخاطف أن استرسل إلى حديث فيه سعة وتعميم، عن الأمسية الشعريّة التي أقمناها له، ولا عن آلاف التونسيّين الذين تزاحموا لحضورها، فقد كانت حدثا استثنائيّا، انما أقف على سؤال الشعراء الفرنسيّين الضيوف مثل غيللفيك وأندريه فيلتر وبرنار نويل، عن هذه الحظوة التي رُزقها شعر نزار قبّاني في سائر البلاد العربيّة. وقد حاولت أن أبيّن لهم ـ وكان معنا أدونيس وسعدي يوسف أيضا ـ ان الأمر يرجع في جانب كبير منه إلى شعره. فهو وإنْ كان سليل لغة هي هذه العربيّة الشاعرة من نفسها، بحكم انها نشأت منذ غابر الجاهليّة، في حضن الشعر، فأنه استطاع أن يعيد تشكيل قصيدة الحبّ عند العرب. وأكثر الغزل القديم ينهض على سنن وتقاليد، في حين انه عند نزار ينفذ إلى كينونة المرأة، ويلامس أرضها باللغة، فيحوز تلك الحالات التي يحوطها الصمت في المستعمل اليومي والمتداول الشعري. وقد يكون مردّ هذه الحظوة إلى قدرته على المواءَمة بين مراسم الشفويّة ومراسم الكتابة، إذ هو على قدر ما يوحّد بين الكلام الشعري وسماعه، ويرسّخ سياقه في ذاكرة المتقبّل المستمع، بطرائق هي من صميم الشفويّة حيث الوزن يرافق الوزن والموسيقى والإنشاد والحركة، الكلامَ الشعري، نجده يوحّد بين الكتابة الشعريّة وقراءتها، فإذا انتشار قصائده من انتشار هذين النمطين من أنماط المعرفة في ثقافتنا.
ولقد تعزّز عندي هذا الانطباع، ونحن نرافقه في زيارة إلى مدينة المهديّة الساحليّة ، فقد طفنا بمقبرتها البحريّة، ثمّ ألمَمْنا ببعض معالمها، وقضينا كامل اليوم في أحد فنادقها. وخلال هذه الزيارة، تعرّفت أكثر إلى نزار قبّاني وهو يرسم ببراءة طفل وذكائه «لقطة ذاتيّة» أي»سيلفي» بعبارتنا اليوم، وهي الكلمة التي تخيّرها معجم أكسفورد، كلمة العام الماضي الأكثر تداولا. فقد استحضر يومها ـ وقد تخيّرنا مكانا يطلّ على البحر ـ أطوارا وألوانا من سيرته الحافلة في دمشق والقاهره ولندن وبيروت ومدريد… وذكريات عن محمّد عبدالوهاب وأمّ كلثوم وعبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفائزة أحمد… حدّثنا عن ذلك الصباح الذي قضّاه في حديقة الأزبكيّة، منتظرا العدد الذي يصدر من مجلّة»الرسالة» حاملا مقالا عن ديوانه «طفولة نهد». وإذا به يُباغت بـ»نهد» وقد تحوّل إلى «نهر». وذهب في ظنّه ان الأمر لا يعدو خطأ مطبعيّا. ولكنّ صاحب المقال أعلمه بأن رئيس التحرير، رأى ان كلمة «نهد» تسيء إلى الذوق العام. وحدّثنا عن عمله في سفارة سوريا في لندن. كان يجلس إلى مكتبه، عندما أعلمته السكرتيرة بأن المواطن المغربي الذي ختم منذ قلبل جوازه أو تأشيرته إلى سوريا، يريد مقابلته لأمر خاصّ. ودخل رجل في هيئة ثور، ودون أيّ مقدّمة أو تحيّة، بادره « أنت الشاعر نزار قبّاني؟». وإذ أجابه بـ«نعم»، قال الرجل :» وماذا تفعل هنا؟ هذا عمل تافه، يستطيع أن يؤدّيه أيّ شخص.. ختْم الجوازات وتوقيعها.. أمّا الشعر..» واستدار الرجل إلى الباب، وانصرف. حدّثنا عن رسالة طريفة وصلته من السودان، يطلب صاحبها منه، أن يسمّي ابنه على اسمه «نزار». وهو يريد ذلك مكتوبا بخطّ يده. وبعد سنوات، كان نزار قبّاني في الخرطوم، ينشد شعره في أمسية حافلة. وعندما انتهت الأمسية، كان الحاضرون يتزاحمون ويتدافعون لمصافحة الشاعر، ولمح رجلا يحمل طفلا بين ذراعيه، يشقّ الزحمة، حتى وصل إليه وهو يصيح:» يا أستاذ نزار.. أنا عصمان.» وضحك نزار.. قلت: « أهلا بعصمان.. وأنا لا أدري من هو.» قال السوداني :» يبدو انك نسيت.. أنا عصمان الذي راسلك منذ خمس سنوات.. وهذا ابني نزار الذي يحمل اسمك، بترخيص منك.»
قرأت له في ذلك المساء مرثيّته في أبيه: « أبي يا أبي والحديث حديث القداح على المشربِ/ حملتك في صحْو عينيّ حتى تهيّأ للناس اني أبي.» وقاطعني :» لو رأيت صورة أبي.. لقلت هو نزار.» سلاما لروح نزار قبّاني الذي عرف كيف يجترح لمفردات القبيلة، معنى أنقى.. أبجديّة الشعر وسماحة اللغة.
شاعر تونسي

منصف الوهايبي

شاهد أيضاً

الفرقة الجهوية للشرطة القضائية تدخل على خط الشكايات الموضوعة ضد رئيس جماعة عين عائشة بإقليم تاونات .

كشفت مصادر مطلعة لــ”جريدة الواجهة″ أن التحقيقات التي باشرتها الفرقة الجهوية للشرطة القضائية في قضية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *