بقلم: مصطفى بنفاتح
في عام 2021، حين كانت جائحة كوفيد-19 تضرب بقسوة وتلقي بظلالها على المغرب، وتُعمّق من معاناة الأسر، امتدت أيادي ملكية كريمة بدعم اجتماعي للتخفيف من وطأة الأزمة عبر توزيع “القفة”. لكن في إقليم سيدي قاسم، حيث الوعي المجتمعي يتوق للعدالة والشفافية، ارتفعت أصوات مواطنين لم تصلهم هذه المساعدة الحيوية. في ظل عزلة فرضتها الجائحة، وجد هؤلاء المواطنون في أحد الحقوقيين الشرفاء منبراً وملاذاً. رجل لم يتردد في حمل همومهم، متخذاً من مبادئه بوصلة له في وجه تلاطم الأمواج.
كانت نية هذا الحقوقي واضحة ونبيلة: توجيه نداء مباشر إلى عامل الإقليم، لا للتحريض أو التخريب، بل للمطالبة بفتح تحقيق شفاف يضمن استفادة عادلة لكل مستحق، ويكشف عن أي خروقات أو فساد قد يكون شاب عملية التوزيع. كان هدفه بناء الثقة وتعزيز الحكامة، لا غير.
عرض المساومة.. وثمن النزاهة
قبل أن يخطو الحقوقي خطوته العلنية، وخلال زيارته للمسؤولين المحليين، تحديداً الباشا والقائد، عُرضت عليه “قفاف” أخرى؛ محاولة صريحة لشراء صمته، وإغلاق الملف بهدوء. لكنه رفض رفضاً قاطعاً أن “يبيع أبناء الحي دياله”، مفضلاً الصدق والمبدأ على المساومة الرخيصة. اختار الوقوف شامخاً مع أهله، متحملاً عواقب هذا الاختيار.
للأسف، بدل الاستجابة لنداء الشفافية والمساءلة، أو حتى الاكتفاء بمحاولة الرشوة، وجد هذا الحقوقي نفسه في قلب عاصفة غير متوقعة. ففي مشهد يثير الاستغراب والأسى، تم الزج به في ملف “مفبرك”. لم يتم خلال المحاكمة حتى الاستماع لشهادات أساسية كان يمكن أن تدحض التهم الموجهة إليه. الأدهى من ذلك، أن متهمين آخرين في نفس الملف، كان قد تم التضييق عليهم في البداية، وجدوا طريقهم إلى الحرية أو التبرئة، ليُترك الحقوقي وحيداً في مواجهة مصير قاسٍ، وكأن جريمته الحقيقية كانت “إثارة الصداع” أو كشف المستور.
جحيم السجن.. ومحاولات التدمير النفسي
صدر الحكم، وزُج بهذا الحقوقي الشريف خلف القضبان، تاركاً وراءه قصة مؤلمة وتضحية شخصية فادحة. لقد “اسمْح” في أبنائه وفي أسرته، التي دفعت ثمن هذا النضال المبكر من أجل العدالة الاجتماعية. فترة السجن لم تكن سوى بداية لمسلسل طويل من المعاناة؛ فحتى داخل أسوار السجن، لم يسلم من المضايقات والضغوطات النفسية، بل وصل الأمر إلى محاولة تدميره معنوياً عبر إعطائه أدوية بادعاء أنه مريض نفسياً، في محاولة يائسة لتجريده من مصداقيته وتحطيم إرادته.
حرية مقيدة.. ومطاردة مستمرة (2025)
نحن الآن في عام 2025، أي بعد مرور أربع سنوات على خروجه من السجن، لكن قيود “ما بعد الإفراج” لم تنتهِ. فما زال يتعرض لمضايقات مستمرة من بعض رجال السلطة والمنتخبين، الذين يبدو أنهم لم يغفروا له “جريمته” في فضح الفساد. وصل الأمر حد تحريض “بلطجية” لتلفيق تهم وملفات جديدة، في محاولة يائسة لإسكاته أو إعادة الزج به في غياهب السجن. في كل مرة يتغير فيها مسؤول، يقوم أعوان السلطة بتشويه سمعة الحقوقي أمام الوافد الجديد، مصورين إياه بأنه “ضد السلطة” لمجرد أنه كشف الفساد، في محاولة لضمان استمرار ملاحقته.
صمود أسطوري.. نضال لا يتزعزع
ولكن، وفي ذروة هذا الاضطهاد الممنهج، يكمن الجمال الحقيقي للقصة: هذا الحقوقي لم يتنازل قيد أنملة عن مبادئه. فصموده ليس فقط أمام السجن والقيود الخارجية، بل أيضاً أمام محاولات التدمير النفسي داخل الزنزانة، ورفضه بيع ضميره للمساومة، يستدعي منا تحية إجلال وإكبار. فرغم كل هذا، لا زال يدافع عن حقوق الإنسان بإقليم سيدي قاسم، صامداً كالجبل في وجه الرياح العاتية.
دعوة للعدالة واليقظة
قصة هذا الحقوقي من سيدي قاسم ليست مجرد حادثة فردية معزولة، بل هي مرآة تعكس تحديات عميقة تواجه حرية التعبير، ومسار المدافعين عن حقوق الإنسان، وشفافية تدبير الشأن العام في سياقات معينة. إنها صرخة مدوية تطالب بحماية حقيقية للمبلغين عن الفساد، وتأكيد على ضرورة بناء نظام قضائي مستقل يضمن المحاكمة العادلة للجميع دون تمييز أو استهداف، وأن لا يكون “إحقاق الحق” سبباً في سجن الأبرياء أو تشريد الأسر أو تدمير نفوسهم.
“لا حياة لمن تنادي في مدينة سيدي قاسم”، قد يقول البعض يائسين. “ما علينا إلا أن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل”، قد يضيف آخرون. لكن قصة هذا الحقوقي تظل شاهداً حياً على أن نضال الإنسان من أجل مبادئه وحقوق مجتمعه، غالباً ما يتجاوز أسوار السجن، ليصبح فصلاً مستمراً من فصول الصمود والتحدي، يذكرنا بأن نور الحقيقة سيظل يشع رغم كل محاولات التعتيم.