صبري يوسف كاتب رأي وباحث في سوسيولوجيا التنمية
تتاسس التنمية في كل المجتمعات على الموارد أولا وعلى مجموعة من الفاعلين الذين سيسعون إلى تغيير مسارات تلك الموارد ( الطبيعية ، التقنية ،التاريخية، البشرية ) من خلال الرهانات او او المقاصد Intentions .
بالمقابل لا يمكن تحريك ما سلف الحديث عنه بدون وجود الإنسان ، الفرد الذي عهد إليه تغيير عجلة التاريخ بحكم الكفاءة faculté, والقدرة على إحداث التغيير . فالانسان أو الفرد تمكن منذ البداية باكتشاف” الذات والآخر”sujet et autrui على دفعات تأملية فلسفية أعمل فيها العقل خارج الحدود ، كان الإنسان هنا الوحيد الذي يمكنه أن يبسط مقدرته على الغير ،حتى على بنو جلدته ( البشر) من خلال العقل الفعال ،كانت الآراء الفلسفية هي الرائدة ،كانت وهي تسلخ نقاشاتها الطويلة لا تتعدى مسارين اثنين :
– الإرادة الخيرة في الانسان.
– والانسان الشرير بطبعه.
– والإرادة العامة كنتيجة للخروج في النهاية من حالة (اللاجواب)و من زخم الفلسفة السياسية، حول كيف علينا بالتحديد حسم معركة هذا (الحيوان العاقل)؟ الى كيف يمكن عقلنة الطبيعة فيه والقضاء على الجوانب المتعلقة “بالحالة البربرية والمتوحشة ” في سلوكه الأولي كما نعته التطوريون جميعا.
لنبتعد قليلا عن ضمير هذا المسار الذي نتركه للفلاسفة الخوض فيه ،انما كان لا بد من العبور على قارعة الطريق التي رسمتها الفلسفة وهي تبحث في حالة الفرد ووعيه أولا بذاته تم بالموضوع من حوله.
في الحالتين معا (الأسرة والتنمية ) التي اخترتهما موضوعا لهذا المقال ،اردت أن أبرز مفهومين أساسيين هنا وهما *الأسرة القادمة من الفرد العاقل ،الواعي،المدرك لماهيته
*التنمية باعتبارها الاختيار الذي استند عليه الفرد من أجل اخضاع ما حوله من الموجودات والسيطرة عليها .
الى هنا يكاد فهمنا يكون مثاليا بحكم سلاسة الفكرة والربط بين المفهومين ( أسرة -تنمية ).
لكن تعالوا إلى فهم كيف تنشا العلاقة بين الذين تحدثنا عنهم بصيغة الأفراد individus ، والتنمية ، هنا ليس علينا العودة إلى فهم” تاريخ العلوم” وليس لدينا الوقت لمحاولة بناء الجسر الذي مد فيه علماء كثر نظريات تهتم بالعلوم من أجل الإجابة عن الفهم الذي لن يكون وحيدا حول جدلية (الفرد والعالم من حوله ). بل ما أريد ترسيمه محدود بالفكرة المحورية وهي الأسرة، التي هي في المقام الأول نتاج موضوعي لالتقاء فرد ذكر وفرد أنثى وفق تشريع، اما تنزيل سماوي أو وفق بناء وعقيدة جماعة ( من البشر) اهتدوا عبر مسيرة طويلة إلى أن العلاقة المعقولة هي ان يلتقي ذكر وانثى بغرض حفظ النوع والتعدد والكثرة .
إن الأسرة وهو ما وجبت الإشارة إليه مبحث كبير في العلوم الإجتماعية، وان الانثربولوجيا (الاجتماعية والثقافية والعضويةوالسياسية ) ضربت لنفسها مواعد كثيرة منذ منتصف القرن التاسع عشر وهي تبحث عن هذا الانتماء، اي الأسرة من خلال منطلقين :
– نشأة الأسرة
– ألرجل المهيمن أو المرأة المهيمنة في الجماعة.
لا أملك الوقت للإحالة على جل ما كتب حول ( العلاقات) والتفاعلات ومختلف النظم التي درستها الانثربولوجيا الغربية، وهي تسجل حول حدود التشريع في الزواج والتعدد والمجتمعات” الأبوية والامومية” من الامازون الى المحيط الهاديء وافريقيا والمجتمعات البدائية ( مارغريت ميد- ايفان بريشارد، مالينوفسكي،رادكليف براون ، بلانديي، كلود ليفي ستروس..).ولائحة طويلة من الباحثين والباحثات ، المهم أن ما نعرفه عن الأسرة اليوم لم يكن لشعوب كثيرة سهل كما نتصوره على مستوى الفهم.
اننا في زخم النقاش الجديد حول إمكانية إعادة فتح ورش الأسرة المغربية واجراء تعديلات تهم هذه الأسرة بعدما قطعت المدونة في نسختها لعام 2004 وقتا صار بالنسبة للدولة ومجموعة من الفاعلين قابلا للتغيير، من أجل مزيد مما يظهر للمجتمع ربما والمشرع أنه حان الوقت لتعديله .
سنتفق أولا أننا في بلد مسلم، ووفق تشريع إسلامي يفترض فيه من الأبحاث والتجارب القادرة على استخراج مشروع جديد تستدعيه الأيام ،اؤمن أنه عليه ان يكون نتاجا موضوعيا لحاجة مطلبية ملحة صاعدة من المجتمع الذي بات يطلب التعديل، بناءا على أسئلة متكررة ومحرجة انطلقت في راهنيتها من معطيات ودراسات وأرقام وبيانات صار معها إجراء التعديلات أو تغيير واقع الأسرة يستند إلى الأرقام الكمية الاحصائية، وهكذا افترض أن الدولة تبين لها ربما وجود معدلات في قضايا تتعلق… (بارتفاع في معدلات الطلاق، إرتفاع نسب العزوف، إرتفاع معدلات العنف، إرتفاع معدلات الامهات العازبات، الأمهات في وضعيات صعبة، الأطفال المتخلى عنهم، ارتفاع حالات الرجال المعنقين، عوز الأسرة عن توفير حاجيات البيت، إستحالة العيش بالاسرة وفق المشروع الذي سيصبح متجاوزا” 2004″،بروز مظاهر تأخر الأطفال في التعليم ، في النمو، في الصحة العقلية والنفسية، انتشار أنماط معينة من معايير السلوك لدى الأطفال باعتبارهم رجال ونساء الغد، عدم جاذبية الأسرة في انتاج اجيال قوية ،صلبة، ذكية، ضعف مؤشرات التنمية البشرية في صفوف الأفراد خلال العشرين سنة الماضية، ارتفاع حالات الانتحار الناتج عن الوسط الاسري الهش، تخلف الاطفال مقارنة بنظراءهم في دول حوض المتوسط، تخلف المغرب مثلا على مستوى مؤشرات سعادة الأسرة المغربية ورفاهية افرادها ، متاعب الأزواج جراء مطالب البيت او أي مبرر يجعل من المهم استبدال أو تغيير جزئي أو شامل لمدونة الأسرة ،لأننا فعلا نراهن على الأسرة المغربية في التنمية وننتظر منها ولها واقعا جديدا ومستقبلا أفضل.
فالاسئلةالأصيلة في كل التخصصات المعرفية كانت دائما هي: لماذا ؟ كيف ؟ ومتى نغير؟
ومثله في الحالة المغربية الراهنة أعتقد أن الفاعلين الرسميين( الدولة )،تملك حجية السؤال ربما من خلال ابحاثها ودراساتها، وربما الفاعلون الآخرون ( مجتمع مدني، قطاع خاص، والافراد ) لديهم نفس أسباب طرح سؤال : لماذا علينا أن نغير ؟ ويملكون القدرة والكفايات للاجابة على سؤال الانطلاق الأولي بما يرونه مناسبا لحالة التطور الخطية التي تمشي في اتجاهها المجتمعات الإنسانية، أرجو أن تكون فرضيات نقاشي على هذه الورقة كما هو موجود اليوم في الحالة المغربية، في ذهن المشرعين والمشرفين على هذا الورش لحاجة المغاربة به.
وقبل إغلاق باب الأسرة باعتبارها مجال خاص ( فوكو), وباعتبار كل الأفعال التي تنتج في الأسرة تؤثر على المجتمع لكونها مؤسسة . والحديث عن المؤسسات هو قصة أخرى كبيرة وواسعة في العلوم الاجتماعية باعتبار المؤسسات مجالات ( عامة) هابرماس ، يتفاعل فيها الأفراد وتنتج معايير للفعل والسلوك، وتوثر على المجتمع. لان سلوك الاستاذ والمربي والحارس والأمام والطبيب يحدث داخل مؤسسات بالتعدي يتشكل “الوعي الجمعي “( كارل يونغ) خلالها،و الذي يعطينا افرادا ودرجات تشابه أو اختلافات جوهرية تؤثر في السياسة والاقتصاد والثقافة والبيئة والمحيط، وتمنحنا درجات بين الأمم من خلال” الاتجاه السيكولوجي الثقافي” الذي انتقل من الفرد إلى الأسرة تم المجتمع “ككتلة تاريخية “( ماركس).
في نهاية الأمر تسمح لنا هذه المؤسسة القوية الصلبة بين باقي الأمم: أما الشعور بالأنانية والفرح العارم من خلال المؤشرات 17للمؤسسات الدولية المانحة ( البنك الدولي ،صندوق النقد الدولي,برنامج الأمم المتحدة الانمائي) أو تجعلنا غارقين في المديونية واملاءات الدائنين التعسفية ، اتمنى ان يكون تحليلي القريب من الادوات العلمية البعيدة عن الخطاب الشعبوي populiste العاطفي الحالم الغير الماسك بمشكلاته.
اعطيني مؤسسة أسرة جيدة أمنحك شعبا قويا جبارا متقدما، والعكس بالعكس، باعتبار الأسرة أهم مؤسسة بين باقي المؤسسات، لأنها تنتمي إلى الفضاء الخاص (فوكو،هابرماس), باقي ما نشاهده على الوسائط المتعددة والوظائف الرقمية من النقاش حول مدونة الأسرة الممكنة هو شيء ينم عن كون المجتمع حي وفاعل و يصنع لنفسه “اتجاهات” للدراسة والتحليل ( امانويل كاسطل) وذاك حقه في دولة تحفظ الحريات وتطرح الموضوعات للنقاش العمومي، وهو جيد لها ومفيد لصناعة الرأي العام والتاثير في السياسات التي تحميها الدولة من خلال الحق.
في باقي التفاصيل وحتى أفهم دول الجوار ومسارات الأسرة من أجل المقارنة ، عدت إلى أقرب بلد لنا على مستويات كثيرة وهو تونس، تتكون مدونة الأحوال الشخصية من 213فصلا و12كتابا هي نتاج للدولة التونسية منذ زمن بعيد ،شاركت فيها الكثير من القوى السياسية والنقابية والمنظمات النسائية التونسية السباقة ، بينما سؤالي الحيران وهو : هل تعكس الأسرة حقيقة تجربتها من خلال النصوص أم العكس، اي، هل التجربة التونسية المتقدمة جدا والتي يظهر لي أنها نتاج قانوني وشرعي متقدمين هي بالتالي حالة المجتمع التونسي العامةوالخاصة في علاقة متصلة فعليا بالتنمية في راهن الدولة وماضيها القريب؟