صبري يوسف كاتب رأي وباحث في سوسيولوجيا التنمية .
نتابع ببالغ الحزن الانباء الواردة من الحوز المغربي، ذاك المجال الذي سطرت على بسيطته أغلب الكتابات التي تناولت المغرب المعاصر منذ اكثر من قرن في علوم بذاتها (الانثربولوجيا، علم الاجتماع، التاريخ، الجغرافيا، السياسة) كان الاطلس الكبير مسرحا لها . كما نشعر بان ما اصاب الناس هناك لا يكتفي بالبقاء عندهم بل يمتد الينا نحن جميعا بحكم الكثير من التفاصيل ( الوحدة الوطنية .التاريخ. الثقافة. الدين . العادات. المصاهرات. الارض. الانتماء . الاخوة…) ولا تكفي السطور لشرح هذه الرحلة التي يقطعها المغاربة من البوغاز الى الصحراء في تداخل عجيب للبنيات ( الديمغرافية. المجالية. الثقافية . المعمارية .والدينية …) ببعضها بعضا ، كما علينا أن ننظر بتبصر شديد الى ان المغرب في صورته بالأمس وقبل البارحة وغدا وهو يمد يدا بيد من اجل دفء فقده حوز مراكش الجميل، ليس وليد مناسبات عابرة بل راكمه المغاربة منذ قرون كثيرة من التضامن المشدود بافكار وممارسات قوية .
المهم، اننا الآن وفي كل مساحة يشعر الناس فيها أنه عليهم واجب العزاء والمواساة الا ويقومون بتقديمه وعرض تلك المقومات من السمات الخاصة بالفرد ( المحلي ) الخلاق ..
حدث الزلزال وخلف ضررا كبيرا واعطابا نفسية مست كل تلك المساحة المتباعدة عن مركز “ايليغ”، حيث كان هناك قدرا مقدورا ليس بالإمكان دفعه باي وسيلة مهما تطور رد الفعل البشري اتجاه المخاطر التي تلحق بالانسان وبالممتلكات… على الأقل بهذا الزمن وقد تدربنا نسبيا بما يكفي- لليقين واللايقين – بان قوى الطبيعة ما تزال تملك وحدها الحديث باسهاب عال عن مقدرتها بالفتك بنا وبما ندعي انه تراكم معرفي بالظواهر (المناخية والجيولوحية والايديميولوجية) وغيرها ، التي نقتنع كل حين أنها تمتحن فينا كل ما راكمناه من اجل ان نستمر …صحيح هناك جهود انما الى اي حد استطعنا تجاوز الطبيعة؟؟ التي لا تعترف بالهدوء دون مزيد من امتحان” المقاومة والتفوق البشري” كل مناسبة وقد عشنا قبل فترة تداعيات “كورونا ” وخرجنا منها كما كتب لنا الخروج بيد فيها العلم واخرى كانت نعوشا وارواحا ازهقت…نحاول يوميا فهم ماذا يجري حولنا ؟ وكيف يسري علينا قانون الطبيعة السابقة على وجودنا العاقل؟ وايهما اعظم ابتكارا لتجاوز رداتها مستقبلا …نحاول فقط عبور مجرى الوادي الى الضفة الأخرى بالخسارة ذاتها في الأرواح والعتاد ،كما كان في سالف الازمان او على أكثر تقدير بكلفة اقل من ذلك الذي جرى ونحن نتقدم بعزم نحو الأمام . ويتغير سقف رغبتنا بحكم سعينا وطموحنا في ان لا نرضخ للظواهر ،وان لا نترك الافق المرسوم للسمو البشري عند السقف الأول.
تقريبا استطعنا أن نشعر بعودة الروح الى قفصها، وبات يسأل المغاربة عن بعضهم بعضا في كل مكان يؤدي الى أي مكالمة ممكنة مع( قريب ،صديق، معرفة ،) واول الأمر كان مع العائلة الكبيرة والاقارب…تبين بعدها ان هذا المغرب الذي هو محفور باذهان أبناءه لا يؤمن “باليتم والحياد والعزلة والحيرة” …بل هو مغرب يتسع بالبشر الذي يسكنه في كل ناحية …صحيح هناك ما يعترينا بالوسيلة ذاتها من امكانات جلد الذات عن المخاطر التي لم تكن محتملة بل لم نتخيلها …صحيح اننا نتابع الوضع ونراقب ونترقب كي تتوقف الارقام التي تعلن عن نفسها في الحوز بين من قضوا ،ومن هم بين جريح وعيان وفاقد لكل متاعه…انما يؤجل المغربي كل ما يمكن ان يجعله في بيئة لكشف الحساب لم يحن أجله. بل ان المغاربة اليوم برصيد جيد من “مستودع القيم ومعايير السلوك ” او لنسمها المدرسة المغربية la marocologie كمدرسة فريدة في العالم ، الحاملة للقيم الممكنة والمتعود عليها الناس – و”الاعتياد ” وحده ظاهرة لها مزاجها ( اتيان لابويسي) –
لنقل بينت المخاطر اليوم ان المغربي يعرف اي الطرق تؤدي اولا وظيفتها للبقاء والنفير ،قبل جلسة او جلسات “كشف الحساب” والتفاوض على المصلحة العامة واعطابها وماذا يجب فعله او كان بالمقدرة تفاديه.
لدي ملاحظات دونتها في اليوم الموالي للزلزال وقد زرت مراكش لفهم ماذا يجري في مثل هذه الكوارث التي لم يكن عندنا كمغاربة فهما حولها …! بل لم يفرز الناس حتى اي صوت يتمتع به الزلزال الا ساعة سمعوه …! إنهم جميعا لربما لأكثر من ستون سنة لم يسمعوا لهذه الظاهرة منطقها المخيف و المرعب والخاص ،،،وهو ما جعلنا نغرق في استرجاع لتلك الاصوات القاتلة بعد دنوها منا …نمضي وقتا في استرجاعها ونخاف من تكرار ذلك …وجدت الكثيرين يعيدون كشف هذا الرعب من خلال تسجيلات على هواتفهم للظاهرة …لقد نهضنا مرة ثانية من كبوة كبيرة لمواجهة الحياة كما كنا بالأمس فاعلين ،مع تقاسمنا جميع الضرر. الذي فجأة وجدناه قد احاط باخوان واخوات وابناء لنا هناك في اطراف الجسد الواحد الذي هو الوطن .
ان سلوك المغاربة اليوم وقبل اليوم في كل محنة لا يعني سوى أنه فعل موضوعي لتجربة جماعية حياتية أصيلة لا ترقى بدون الآخر، ان ما يرثه الفرد من القيم اكبر مما يكسبه عادة من محيطه …والبنيات الاجتماعية المغربية المرتبطة( بالعائلة والقرابة والأمومة والابوة الحي والقبيلة والعشيرة )لا يمكنها أن تصنع فجأة في عقب التاريخ… بل كانت هي المركز الذي مد الدولة بالبقاء لأكثر من ألف عام .
في باقي القصة هناك …التيكنولوجيا ( الوسائط المتعددة والوظائف الرقمية société de réseau) التي زادت من تعداد امكانيات التدخل ونشرت” عدوى الانفعالات” بشكل رهيب وسريع بين المغاربة للتضامن والتازر والاخوة والفعل actions الرسمي من خلال جزء مهم من المجتمع المدني ومؤسسات الدولة ورموزها ،وفي الطرف الأخر من خلال القوة الشعبية المدنية pouvoir civil ،في العثرات كما في الامنيات . ان ما يراه غيرنا فينا من” الثروة “او من المؤهلات او الرساميل( الرمزية الاجتماعية والثقافية)، التي تحيل على التضامن فقط كشف عنها مجتمع (الريزو réseau) عند كل واقعة وأمر ، لانها اصبحت تحال على وسائطه بالتأكيد…ولكونها مبررة بالوجود في المجتمع المغربي منذ عصور .
هل الوقت يسمح بتفسير ماذا كان على الفاعلين ( …) ترجمته قبل فصل من الزمن هناك بالحوز او باي جهة أو جماعة لتتفادي ضررا كان سيلحق حتما ؟ اعتقد ان الأمر سابق لاوانه ، لماذا ؟
عبرت الحوز رفقة اصدقائي مرات كثيرة ، ذهابا من اقليم تحناوت إلى أعالي (ممر تيزين تاست) مرورا بمولاي ابراهيم .اسني .اجوكاك ..منه الى الهبوط في اتجاه سهل سوس …اننا في مجالات جغرافية يقطن فيها الناس اما بالسفوح او عند الوادي …يتمتعون بهدوء وجمال للطبيعة جعلهم موضع اماكن للسياحة الجبلية وغيرها .ومكن العالم من التعرف على مخزون طبيعي وبيئي كبير بموارده المهمة صارت في خدمة البلد …لم يطرح حينها موضوع ماذا ينقص للتنمية او ما يستجد فيها هناك على مدار فترات …! ربما لان اقتصاد “الكفاف والسياحة والزراعات المعاشية” غطى على الانتظارات ،او ربما لان احدا لم يكن يتوقع (مجتمعا للمخاطر )” ULRICH BECK ينمو هناك ببطء شديد …وهنا لا يمكن لوم احد ، فالتنمية البشرية او التنمية بمفهومها العام تصبح في موضع آخر تبحث لذاتها عن سياق سيظهر مع الأيام بالفعل، ليعطينا جميعا سؤالا مركزيا في المغرب و هو : ماهي الطريقة الممكنة لرفع التحديات التنموية بالاوساط الماهولة بالجبل ؟
سافرنا كثيرا … ولاحظنا ان جزءا مهما من مساحة هذا البلد جبال تتخللها الاخبار والوديان والحياة والحكايات والأحكام المطلقة كذلك، وان هذه المساحة يسكنها جمال وبيئات ومهام واقدار…كنا نخوض في موضوعات “السياسات العمومية والتنمية” ونكتفي بأننا في مغرب يتسع فيه مدلول الجمال والترحاب ولطف البشر اكثر من ادعاء اخر …لكن يبدو اننا اليوم باتجاه ايجاد جواب ل: رهانات الفعل العمومي بالجبل باعتباره أمرا كشف هشاشة البنيات السكانية المختفية وراء (الكفاف) ،أولئك الذين كانوا البارحة يشعروننا بالفرح العارم في طبيعتهم الساحرة واوديتهم المليئة بالحياة …من غير أن نتخيل حجم (الحاجة ) اصلا لديهم! هم أحوج هناك اليوم لمفهزم التشييء ومتغيراته اكثر مما طلع عليه ضوء النهار ؟
في جانب آخر اعتقد قبل ان انهي، ان المغرب يمكنه ان يعيد ترسيم حدود ما تمنحه السياحة في الأماكن التي وجهت لتكون قبلة لهذا الرافد الاقتصادي المهم…ظهر ان مراكش التي الهمت كل القادمين اليها ، وعكست روحا مغربية تتمتع بالكرم والشجاعة والسخاء لخدمة الغير ،هو جيد بحكم السمات الخاصة بالمغاربة وبحكم الحاجة للشغل وبحكم ما نملك ، لكن في المقابل يبدو ان “الرأسمال المغربي الناعم” او “القوى الناعمة” التي يتمتع بها البلد دوليا بفضل (أبناءه وتاريخه وثقافته وتراثه وفنونه) سحر البلد في مناخه الطبيعي والتاريخي والثقافي والفني والبشري، تحتاج الى إعادة تجسير وثيقة لهذه الكثافة للراسمال المغربي بين ” الواقع والتمثل حول أفق هذا الواقع ” الذي يسكن في عقيدة مواطنيه …من خلال سلوكهم وافكارهم ورؤيتهم لانفسهم وكرمهم وتاريخهم، الذي يتحصن بمرجعية قوية وتوابث أمة كلها تعكس شخصية المغربي بشكل يقدم فيه نفسه للعالم هذا الإنسان بعنوان مفاده :أنه “نعم الفرد في نعم البيئة والوسط” .
صار مهما اليوم اعادة النظر في مفهوم السياحة كمورد اقتصادي عليه ان يرسم ملامح” للانصاف الاجتماعي الحقيقي” قبل تقديمه طبقا من التاريخ والثقافة والاداب والفنون الشعبية للناس والزوار…يمكننا تقدير الجهود التي تبدل من اجل جعل وجهات سياحية تنعش الاقتصاد، وتساهم في الاداء الجيد لتعبئة الموارد الوطنية ،وكذلك توفير فرص للشغل مهم جدا ، ولكن هل استطاع القطاع سواء بالحوز او مراكش ان ينفي عن الاحياء المنتمية الى زخم الموروث الذي نقدمه انتشال الناس من هشاشة الفضاءات السكانية ،ومن الهامش وسط المزارات السياحية المهمة الجبلية او الداخلية …؟اعتقد اننا يمكن ان نعيد السؤال الاصلي فينا وهو : اي سياحة نريد ؟ وقبله : كيف يمكن ان يكون قطاع السياحة قطاعا منتجا للثروة بين المشتغلين فيه ؟
الرؤية المستقبلية في القطاع يمكنها أن تجد حلا لذلك ، فالعقل المغربي مبدع ، وقبل اي قطاع وما يمكن ان يساهم به في الاقتصاد “النمو” عموما ،علينا ان نسال عن التنمية بمعنى: من يفعل ماذا ؟ qui fait quoi،عن افتراض قدرة المواطن في مواجهة الأزمات بجيبه وبمتانة داره وبرفاهية سكنه من مداخيل اي قطاع نؤسس عليه استراتجيات اقتصادية ممكنة وملهمة في محيطنا الدولي والقاري.
ان المغرب يستطيع ذلك ،ودروس هذه الايام وقبلها (كورونا) بتعبير الفيلسوف ديدرو Diderot في مخطوطة الاعتذار الشهيرة”l’apologie “قبيل النهضة الأوروبية تختصر كل شيء ومعناها : “ان الأزمات تعيد تجديد الأمم” les crises régénère les sociétés