بعد وفاة الحسن الثاني، ومباشرة بعد تولي محمد السادس زمام العرش استشعر الجميع أن عهدا جديدا يولد، فيه كثير من الحريات، وكثير من التقارب بين الشعب والسلطة. ولقد أعلن القصر بوضوح عن رغبته في تجديد المجال الأمني بإعفاء الرجل القوي حينها إدريس البصري، وإعادة تنظيم هيكلة كل القطاعات الأمنية بالمملكة,.
ومنذ ذلك الوقت، تعاقب المدراء العامون للأمن الوطني يحملون هذا الطموح الملكي المنصت لمطالب شعبه، لكنهم لم يحققوا النتيجة المتوخاة. وكانت النتيجة المرجوة تتلخص في نقطتين: رجال أمن مواطنون، وأمن للمواطنين والوطن.
فلم تبدأ تباشير التغيير إلا عندما حل على رأس المديرية العامة للأمن الوطني مسؤول له قلب مغربي و ضمير ملكي و عقل غير عادي.
بعد تعيين عبد اللطيف الحموشي مديرا عاما للأمن الوطني استبشر المغاربة بهذا القرار. وحتى الأطر الأمنية لم تخف سعادتها بذلك. كانت سمعة الرجل تسبقه، ولم يخيب الظن أبدا. كانت القرارات الأولى التي اتخذها تجمع بين الصرامة والشفافية، و رأينا كيف كان التفاعل غير المسبوق مع مطالب الفايسبوكيين والمواطنين البسطاء، وكيف كان التجاوب مع نبض الشارع، وكيف كانت الاستجابة السريعة لشكاوى مواطنين نشروا تظلماتهم إذ تعرضوا للبطش من رجل أمن طائش ومغتر بمنصبه.
قبل كل هذا، كان الحموشي طالبا مجدا في كلية الحقوق بفاس، في أجواء تميزت بالصراع "الدموي" أحيانا بين القاعديين و الإسلاميين في رحاب كلية ظهر المهراز. وبعدما نال إجازته في الحقوق، التحق بمقاعد التكوين بأكاديمية الشرطة بالقنيطرة، فتخرج ضابطا، ثم ارتقى عميدا للأمن سنة 1993.
حسه الأمني الممتاز، عززه بتكوين في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، فجعله محط أنظار مسؤوليه. وفي كل المناصب والمسؤوليات التي تحملها، كان يحظى باحترام رؤسائه. لم تصل كل انجازاته إلى المواطنين لزهده في الظهور بعد كل إنجاز، إلا أنها كانت أكبر من ألا يصل صداها إلى أكثر من جهة، وهذا بالضبط ما جعل أكثر من تقرير إعلامي يعتبره الرجل الثاني في المخابرات المدنية بعد أحمد حراري الرجل الأول رسميا.
أضاف الحموشي بعد تعيينه على رأس المخابرات المغربية ركنا جديدا في المفهوم الأمني لم يكن معمولا به من قبل، وهو استباق الأحداث قبل أن تحدث، وتوقع كل السيناريوهات الممكن حدوثها، بكل ما يتطلبه ذلك من نباهة وذكاء وقدرة على تحليل المعطيات والمعلومات واستغلالها.
لقد كان من بين الأوائل الذين استشعروا خطر السلفية الجهادية، قبل أن تتبلور في مجموعات انتعشت في أحزمة المدن الكبرى، ومنها المجموعات التي هزت مدينة الدار البيضاء في السادس عشر من شهر ماي 2003. فوضع خبرته في متابعة الحركات الإسلامية الراديكالية والجماعات المتشددة في المغرب وامتداداتها خارجه. وبرز دوره في تتبع الخلايا المتطرفة في كل بيئة يمكن أن تنمو فيها، ومن ذلك متابعته للذين شاركوا في المسيرة التي نظمت بمناسبة مشروع الخطة الوطنية للمرأة في التنمية البشرية، حينما قادته فراسته وخبرته إلى استشعار الخطر من العناصر الراديكالية التي سبق أن سافرت إلى أفغانستان، والتي نزلت بثقلها في مسيرة شارع محمد السادس بالبيضاء، لتمهد لانتشار فكر متشدد يعادي النهج الحداثي الذي يسير عليه المغرب والذي لا يتعارض مع هوية البلاد كدولة إسلامية، ولا مع عقيدة المغاربة كمسلمين. وكان المبادر بوأدها في مهدها، وقد نجح في ذلك. فسلم الوطن من الشر الذي مزق وحدة شعوب أخرى، وحول بلدانا أخرى إلى خراب.
كانت نجاحاته التي حققها في دحر كل العمليات التي كان منفذوها يعتقدون أن الإعداد لها يتم في الخفاء (قبل أن يتفاجأوا بضربات استباقية أفشلت مخططاتهم كان أكثر وضوحا عملية "حي الفرح") عند تعيينه مديرا للأمن الوطني، في زمن تصاعدت فيه أخطار الإرهاب والإرهابيين. وقد كان بالفعل العقل الأمني الاستراتيجي الذي جنب البلاد عشرات المخططات الإرهابية، وباتت إحدى أدواته الأقوى المكتب المركزي للأبحاث القضائية الذي استحدثه، ويُعرف عند المغاربة ب ال ف بي المغرب.
قد أكون واحدا من المتتبعين المعجبين بما يقوم المدير العام للأمن الوطني، وقد أكون مبالغا في كيل المديح له… لكن الدقة و الرزانة والاشتغال بحماس منقطع النظير صفات تجبر حتى الذين لا يطيقون التنويه بالبوليس ورجاله على الاعتراف بحنكته. وهو الذي قالوا عنه: "الحموشي شخص رجل الخلق، متواضع، ميّال إلى العمل في الخفاء دون رياء أو استعراض أو بحث عن شهرة".
"الحموشي تجسيد للمسؤول الأمني المواطن الذي ننشده. ويظهر ذلك في إجراءين اساسيين هما: نهجه لاستراتيجية التواصل مع الرأي العام، والتصدي للاختلالات الإدارية والسلوكية داخل المؤسسة الأمني. فما إن يثبت في حق أحد المسؤولين خطأ مهني ما، حتى يبادر إلى معاقبته مهما كانت رتبته، ليكون عبرة لغيره من مسؤولي إدارة الأمن والمنتسبين إليها".
هذه بعض ما كًتب عن الرجل، وبالتأكيد، إن أعمق من هذا لم يُكتب بعد.
أشرف بن الجيلالي